قصة نوح عليه السلام
ووجه السؤال: أنك وعدتني بنجاة أهلي معي وهو منهم وقد غرق؟ فأجيب بأنه ليس من أهلك، أي: الذين وعدت بنجاتهم. أي: أما قلنا لك:
{وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم} (سورة المؤمنون:27)
فكان هذا ممن سبق عليه القول منهم بأنه سيغرق بكفره، ولهذا ساقته الأقدار إلي أن انحاز عن حوزة أهل الإيمان، فغرق مع حزبه أهل الكفر والطغيان.
ثم قال تعالى:
{قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم} (سورة هود:48)
هذا أمر لنوح عليه السلام لما نضب الماء عن وجه الأرض، وأمكن السعي فيها والاستقرار عليها، أن يهبط من السفينة التي كانت قد استقرت بعد سيرها العظيم على ظهر جبل الجودي، وهو جبل بأرض الجزيرة مشهور، (بسلام منا وبركات) أي: اهبط سالماً مباركاً عليك، وعلى أمم ممن سيولد بعد، أي: من أولادك، فإن الله لم يجعل لأحد ممن كان معه من المؤمنين نسلاً ولا عقباً سوى نوح عليه السلام. قال تعالى: (وجعلنا ذريته هم الباقين) الصافات:77، فكل من على وجه الأرض اليوم من سائر أجناس بني آدم، ينسبون إلي أولاد نوح الثلاثة وهم سام، وحام، ويافث.
قال الإمام احمد: حدثنا عبد الوهاب، عن بن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سام أبو العرب، وحام أبو الحبش، ويافث أبو الروم"
ورواه الترمذي عن بشر بن معاذ العقدي، عن يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة مرفوعاً نحوه.
وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر: وقد روي عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. قال: والمراد بالروم هنا الروم الأول، وهم اليونان المنتسبون إلي رومي بن لبطي ابن يونان بن يافث بن نوح عليه السلام
ثم روي من حديث إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، أنه قال: ولد نوح ثلاثة: سام ويافث وحام، وولد كل واحد من هذه الثلاثة ثلاثة: فولد سام: العرب وفارس والروم. وولد يافث: الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج. وولد حام: القبط والسودان والبربر.
قلت: وقد قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا إبراهيم بن هانئ واحمد ابن الحسين بن عباد أبو العباس، قالا: حدثنا محمد بن يزيد بن سنان الرهاوي حدثني أبي، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولد لنوح سام وحام ويافث، فولد لسام العرب وفارس والروم والخير فيهم، وولد ليافث: يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة ولا خير فيهم، وولد لحام: القبط والبربر والسودان"
ثم قال: لا تعلمه يروي مرفوعاً إلا من هذا الوجه، تفرد به محمد بن يزيد بن سنان عن أبيه، وقد حدث عنه جماعة من أهل العلم واحتملوا حديثه. ورواه غيره عن يحيى بن سعيد مرسلاً ولم يسنده، وإنما جعله من قول سعيد.
قلت: وهذا الذي ذكره أبو عمر، هو المحفوظ عن سعيد قوله: (وهكذا روي عن وهب بن منبه مثله، والله أعلم)، ويزيد بن سنان أبو قروة الرهاوي ضعيف بمرة لا يعتمد عليه.
وقد قيل: إن نوحاً عليه السلام لم يولد له هؤلاء الثلاثة الأولاد إلا بعد الطوفان، وإنما ولد له قبل السفينة كنعان الذي غرق، وعابر ماتت قبل الطوفان.
والصحيح أن أولاده الثلاثة كانوا معه في السفينة هم ونساؤهم وأمهم، وهو نص التوراة.
وقد ذكر أن "حاماً" واقع امرأته في السفينة، فدعا عليه نوح أن تشوه خلقه نطفته، فولد له ولد أسود، وهو كنعان بن حام جد السودان، وقيل: بل رأى أباه نائماً، وقد بدت عورته فلم يسترها وسترها أخوه، فلهذا دعا عليه أن تغير نطفته وأن يكون أولاده عبيداً لأخوته.
وذكر الإمام أبو جعفر بن جرير من طريق علي بن زيد بن جدعان، عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أنه قال: قال الحواريون لعيسى ابن مريم: لو بعثت لنا رجلاً شهد السفينة فحدثنا عنها، قال: فانطلق بهم حتى أتى إلي كثيب من تراب، فأخذ كفا من ذلك التراب بكفه، وقال: أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا قبر حام بن نوح. قال وضرب الكثيب بعصاه، وقال: قم بإذن الله فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه قد شاب، فقال له عيسى عليه السلام: هكذا هلكت؟ قال: ولكن مت وأنا شاب، ولكني ظننت أنها الساعة، فمن ثم شبت.
قال: حدثنا عن سفينة نوح، قال: كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع، وكانت ثلاث طبقات: فطبقة فيها الدواب والوحش، وطبقة فيها الإنس، وطبقة فيها الطير، فلما كثر أرواث الدواب أوحى الله عز وجل إلي نوح عليه السلام أن اغمز ذئب الفيل، فغمزه، فوقع منه خنزير وخنزيرة، فأقبلا على الروث، ولما وقع الفأر يخرر السفينة بقرضه أوحى الله عز وجل إلي نوح عليه السلام أن أضرب بين عيني الأسد؛ فخرج من منخره سنور وسنورة، فأقبلا على الفأر، فقال له عيسى: كيف علم نوح عليه السلام أن البلاد قد غرقت، قال: بعث الغراب يأتيه بالخبر فوجد جيفة فوقع عليها فدعا عليه بالخوف، فذلك لا يألف البيوت.
قال: ثم بعث الحمامة فجاءت بورق زيتون بمنقارها وطين برجليها، فعلم أن البلاد قد غرقت. قال: فطوقها الخضرة التي في عنقها، ودعا لها أن تكون في أنس وأمان، فمن ثم تألف البيوت، قال: فقالوا: يا رسول الله، ألا تنطلق به إلي أهلينا فيجلس معنا ويحدثنا؟ قال: كيف يتبعكم من لا رزق له؟ قال: فقال له: عد بإذن الله، فعاد تراباً.
وهذا أثر غريب جداً.
وروي علباء بن أحمر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان مع نوح في السفينة ثمانون رجلاً معهم أهلوهم، وإنهم كانوا في السفينة مائة وخمسين يوماً، وإن الله وجه السفينة إلي مكة فدارت بالبيت أربعين يوماً، ثم وجهها إلي الجودي فاستقرت عليه، فبعث نوح عليه السلام الغرب ليأتيه بخبر الأرض، فذهب فوقع على الجيف فأبطأ عليه، فبعث الحمامة فأتته بورق الزيتون ولطخت رجليها بالطين، فعرف نوح أن الماء قد نضب، فهبط إلي أسفل الجودي فابتنى قرية وسماها ثمانين، فأصبحوا ذات يوم وقد تلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة، إحداها العربية، وكان بعضهم لا يفقه كلام بعض، فكان نوح عليه السلام يعبر عنهم.
وقال قتادة وغيره: ركبوا في السفينة في اليوم العاشر من شهر رجب، فساروا مائة وخمسين يوماً، واستقرت بهم على الجودي شهراً، وكان خروجهم من السفينة في يوم عاشوراء من المحرم، وقد روي ابن حرير خبراً مرفوعاً يوافق هذا، وأنهم صاموا يومهم ذلك.
وقال الإمام احمد: حدثنا أبو جعفر، حدثنا عبد الصمد بن حبيب الأزدي، عن أبيه حبيب بن عبد الله، عن شبل، عن أبي هريرة قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بأناس من اليهود، وقد صاموا يوم عاشوراء، فقال: "ما هذا من الصوم!" فقالوا: هذا اليوم الذي نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من الغرق، وغرق فيه فرعون، وهذا اليوم استوت فيه السفينة على الجودي . فصامه نوح وموسى عليهما السلام شكراً لله عز وجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أحق بموسى، وأحق بصوم هذا اليوم" فأمر أصحابه بالصوم.
وقال لأصحابه: "من كان منكم أصبح صائماً فليتم صومه، ومن كان منكم قد أصاب من غداء أهله فليتم بقية يومه"
وهذا الحديث له شاهد في الصحيح من وجه آخر، والمستغرب ذكر نوح أيضاً، والله أعلم.
وأما ما يذكره كثير من الجهلة أنهم أكلوا من فضول أزوادهم، ومن حبوب كانت معهم قد استصحبوها، وطحنوا الحبوب يومئذ، واكتحلوا بالإثمد لتقوية أبصارهم لما انهارت من الضياء بعدما كانوا في ظلمة السفينة، فكل هذا لا يصح فيه شيء، وإنما يذكر فيه آثار منقطعة عن بني إسرائيل لا يعتمد عليها ولا يقتدي بها، والله أعلم.
وقال محمد بن إسحاق: لما أراد الله أن يكف ذلك الطوفان؛ أرسل ريحاً على وجه الأرض، فسكن الماء وانسدت ينابيع الأرض، فجعل الماء ينقص ويغيض ويدبر، وكان استواء الفلك على الجوي فيما يزعم أهل التوراة، في الشهر السابع لسبع عشرة ليلة مضت منه، وفي أول يوم من الشهر العاشر رئيت رءوس الجبال.
فلما مضى بعد ذلك أربعون يوماً فتح نوح كوة الفلك التي صنع فيها، ثم أرسل الغراب لينظر له ما فعل الماء فلم يرجع إليه، فأرسل الحمامة فرجعت إليه فلم يجد لرجليها موضعاً فبسط يده للحمامة فأخذها فأدخلها، ثم مضت سبعة أيام، ثم أرسلها لتنظر له ما فعل الماء فلم ترجع فرجعت حين أمست وفي ورق زيتونة، فعلم نوح أن الماء قد قل على وجه الأرض.
ثم مكث سبعة أيام ثم أرسلها فلم ترجع إليه، فعلم نوح أن الأرض قد برزت، فلم كملت السير فيما بين أن أرسل الله الطوفان إلي أن أرسل نوح الحمامة ودخل يوم واحد من الشهر الأول من سنة اثنتين؛ برز وجه الأرض، وظهر البر؛ وكشف نوح غطاء الفلك.
وهذا الذي ذكره ابن إسحاق هو بعينه مضمون سياق التوراة التي بأيدي أهل الكتاب.
وقال ابن إسحاق: وفي الشهر الثاني من سنة اثنتين في ست وعشرين ليلة منه:
{قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك، وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم} (سورة هود:48)
وفيما ذكر أهل الكتاب أن الله كلم نوحاً قائلاً له: اخرج من الفلك أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك، وجميع الدواب التي معك ولينموا وليكثروا في الأرض.
فخرجوا، وابتنى نوح مذبحاً لله عز وجل، وأخذ من جميع الدواب الحلال، والطير الحلال فذبحها قرباناً إلي الله عز وجل، وعهد الله إليه ألا يعيد الطوفان على أهل الأرض، وجعل تذكاراً لميثاقه إليه القوس الذي في الغمام، وهو قوس قزح الذي روى عن ابن عباس أنه أمان من الغرق. قال بعضهم: فيه إشارة إلي أنه قوس بلا وتر، أي: أن هذا الغمام لا يوجد منه طوفان كأول مرة.
وقد أنكرت طائفة من جهلة الفرس وأهل الهند وقوع الطوفان، واعترف به آخرون منهم، وقالوا: إنما كان بأرض بابل ولم يصل إلينا. قالوا: ولم نزل نتوارث الملك كابراً عن كابر من لدن "كنوفرت" يعنون ـ آدم ـ إلي زماننا هذا.
وهذا قاله من قاله من زنادقة المجوس عباد النيران وأتباع الشيطان. وهذا سفسطة، وكفر فظيع، وجهل بليغ، ومكابرة للمحسوسات، وتكذيب لرب الأرض والسموات.
وقد اجمع أهل الأديان الناقلون عن رسل الرحمن، مع ما تواتر عند الناس في سائر الأزمان، على وقوع الطوفان، وأنه عم جميع البلاد، ولم يبق الله أحداً من كفرة العباد؛ استجابة لدعوة نبيه المؤيد المعصوم، وتنفيذاً لما سبق في القدر المحتوم.
ووجه السؤال: أنك وعدتني بنجاة أهلي معي وهو منهم وقد غرق؟ فأجيب بأنه ليس من أهلك، أي: الذين وعدت بنجاتهم. أي: أما قلنا لك:
{وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم} (سورة المؤمنون:27)
فكان هذا ممن سبق عليه القول منهم بأنه سيغرق بكفره، ولهذا ساقته الأقدار إلي أن انحاز عن حوزة أهل الإيمان، فغرق مع حزبه أهل الكفر والطغيان.
ثم قال تعالى:
{قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم} (سورة هود:48)
هذا أمر لنوح عليه السلام لما نضب الماء عن وجه الأرض، وأمكن السعي فيها والاستقرار عليها، أن يهبط من السفينة التي كانت قد استقرت بعد سيرها العظيم على ظهر جبل الجودي، وهو جبل بأرض الجزيرة مشهور، (بسلام منا وبركات) أي: اهبط سالماً مباركاً عليك، وعلى أمم ممن سيولد بعد، أي: من أولادك، فإن الله لم يجعل لأحد ممن كان معه من المؤمنين نسلاً ولا عقباً سوى نوح عليه السلام. قال تعالى: (وجعلنا ذريته هم الباقين) الصافات:77، فكل من على وجه الأرض اليوم من سائر أجناس بني آدم، ينسبون إلي أولاد نوح الثلاثة وهم سام، وحام، ويافث.
قال الإمام احمد: حدثنا عبد الوهاب، عن بن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سام أبو العرب، وحام أبو الحبش، ويافث أبو الروم"
ورواه الترمذي عن بشر بن معاذ العقدي، عن يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة مرفوعاً نحوه.
وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر: وقد روي عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. قال: والمراد بالروم هنا الروم الأول، وهم اليونان المنتسبون إلي رومي بن لبطي ابن يونان بن يافث بن نوح عليه السلام
ثم روي من حديث إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، أنه قال: ولد نوح ثلاثة: سام ويافث وحام، وولد كل واحد من هذه الثلاثة ثلاثة: فولد سام: العرب وفارس والروم. وولد يافث: الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج. وولد حام: القبط والسودان والبربر.
قلت: وقد قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا إبراهيم بن هانئ واحمد ابن الحسين بن عباد أبو العباس، قالا: حدثنا محمد بن يزيد بن سنان الرهاوي حدثني أبي، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولد لنوح سام وحام ويافث، فولد لسام العرب وفارس والروم والخير فيهم، وولد ليافث: يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة ولا خير فيهم، وولد لحام: القبط والبربر والسودان"
ثم قال: لا تعلمه يروي مرفوعاً إلا من هذا الوجه، تفرد به محمد بن يزيد بن سنان عن أبيه، وقد حدث عنه جماعة من أهل العلم واحتملوا حديثه. ورواه غيره عن يحيى بن سعيد مرسلاً ولم يسنده، وإنما جعله من قول سعيد.
قلت: وهذا الذي ذكره أبو عمر، هو المحفوظ عن سعيد قوله: (وهكذا روي عن وهب بن منبه مثله، والله أعلم)، ويزيد بن سنان أبو قروة الرهاوي ضعيف بمرة لا يعتمد عليه.
وقد قيل: إن نوحاً عليه السلام لم يولد له هؤلاء الثلاثة الأولاد إلا بعد الطوفان، وإنما ولد له قبل السفينة كنعان الذي غرق، وعابر ماتت قبل الطوفان.
والصحيح أن أولاده الثلاثة كانوا معه في السفينة هم ونساؤهم وأمهم، وهو نص التوراة.
وقد ذكر أن "حاماً" واقع امرأته في السفينة، فدعا عليه نوح أن تشوه خلقه نطفته، فولد له ولد أسود، وهو كنعان بن حام جد السودان، وقيل: بل رأى أباه نائماً، وقد بدت عورته فلم يسترها وسترها أخوه، فلهذا دعا عليه أن تغير نطفته وأن يكون أولاده عبيداً لأخوته.
وذكر الإمام أبو جعفر بن جرير من طريق علي بن زيد بن جدعان، عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أنه قال: قال الحواريون لعيسى ابن مريم: لو بعثت لنا رجلاً شهد السفينة فحدثنا عنها، قال: فانطلق بهم حتى أتى إلي كثيب من تراب، فأخذ كفا من ذلك التراب بكفه، وقال: أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا قبر حام بن نوح. قال وضرب الكثيب بعصاه، وقال: قم بإذن الله فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه قد شاب، فقال له عيسى عليه السلام: هكذا هلكت؟ قال: ولكن مت وأنا شاب، ولكني ظننت أنها الساعة، فمن ثم شبت.
قال: حدثنا عن سفينة نوح، قال: كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع، وكانت ثلاث طبقات: فطبقة فيها الدواب والوحش، وطبقة فيها الإنس، وطبقة فيها الطير، فلما كثر أرواث الدواب أوحى الله عز وجل إلي نوح عليه السلام أن اغمز ذئب الفيل، فغمزه، فوقع منه خنزير وخنزيرة، فأقبلا على الروث، ولما وقع الفأر يخرر السفينة بقرضه أوحى الله عز وجل إلي نوح عليه السلام أن أضرب بين عيني الأسد؛ فخرج من منخره سنور وسنورة، فأقبلا على الفأر، فقال له عيسى: كيف علم نوح عليه السلام أن البلاد قد غرقت، قال: بعث الغراب يأتيه بالخبر فوجد جيفة فوقع عليها فدعا عليه بالخوف، فذلك لا يألف البيوت.
قال: ثم بعث الحمامة فجاءت بورق زيتون بمنقارها وطين برجليها، فعلم أن البلاد قد غرقت. قال: فطوقها الخضرة التي في عنقها، ودعا لها أن تكون في أنس وأمان، فمن ثم تألف البيوت، قال: فقالوا: يا رسول الله، ألا تنطلق به إلي أهلينا فيجلس معنا ويحدثنا؟ قال: كيف يتبعكم من لا رزق له؟ قال: فقال له: عد بإذن الله، فعاد تراباً.
وهذا أثر غريب جداً.
وروي علباء بن أحمر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان مع نوح في السفينة ثمانون رجلاً معهم أهلوهم، وإنهم كانوا في السفينة مائة وخمسين يوماً، وإن الله وجه السفينة إلي مكة فدارت بالبيت أربعين يوماً، ثم وجهها إلي الجودي فاستقرت عليه، فبعث نوح عليه السلام الغرب ليأتيه بخبر الأرض، فذهب فوقع على الجيف فأبطأ عليه، فبعث الحمامة فأتته بورق الزيتون ولطخت رجليها بالطين، فعرف نوح أن الماء قد نضب، فهبط إلي أسفل الجودي فابتنى قرية وسماها ثمانين، فأصبحوا ذات يوم وقد تلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة، إحداها العربية، وكان بعضهم لا يفقه كلام بعض، فكان نوح عليه السلام يعبر عنهم.
وقال قتادة وغيره: ركبوا في السفينة في اليوم العاشر من شهر رجب، فساروا مائة وخمسين يوماً، واستقرت بهم على الجودي شهراً، وكان خروجهم من السفينة في يوم عاشوراء من المحرم، وقد روي ابن حرير خبراً مرفوعاً يوافق هذا، وأنهم صاموا يومهم ذلك.
وقال الإمام احمد: حدثنا أبو جعفر، حدثنا عبد الصمد بن حبيب الأزدي، عن أبيه حبيب بن عبد الله، عن شبل، عن أبي هريرة قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بأناس من اليهود، وقد صاموا يوم عاشوراء، فقال: "ما هذا من الصوم!" فقالوا: هذا اليوم الذي نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من الغرق، وغرق فيه فرعون، وهذا اليوم استوت فيه السفينة على الجودي . فصامه نوح وموسى عليهما السلام شكراً لله عز وجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أحق بموسى، وأحق بصوم هذا اليوم" فأمر أصحابه بالصوم.
وقال لأصحابه: "من كان منكم أصبح صائماً فليتم صومه، ومن كان منكم قد أصاب من غداء أهله فليتم بقية يومه"
وهذا الحديث له شاهد في الصحيح من وجه آخر، والمستغرب ذكر نوح أيضاً، والله أعلم.
وأما ما يذكره كثير من الجهلة أنهم أكلوا من فضول أزوادهم، ومن حبوب كانت معهم قد استصحبوها، وطحنوا الحبوب يومئذ، واكتحلوا بالإثمد لتقوية أبصارهم لما انهارت من الضياء بعدما كانوا في ظلمة السفينة، فكل هذا لا يصح فيه شيء، وإنما يذكر فيه آثار منقطعة عن بني إسرائيل لا يعتمد عليها ولا يقتدي بها، والله أعلم.
وقال محمد بن إسحاق: لما أراد الله أن يكف ذلك الطوفان؛ أرسل ريحاً على وجه الأرض، فسكن الماء وانسدت ينابيع الأرض، فجعل الماء ينقص ويغيض ويدبر، وكان استواء الفلك على الجوي فيما يزعم أهل التوراة، في الشهر السابع لسبع عشرة ليلة مضت منه، وفي أول يوم من الشهر العاشر رئيت رءوس الجبال.
فلما مضى بعد ذلك أربعون يوماً فتح نوح كوة الفلك التي صنع فيها، ثم أرسل الغراب لينظر له ما فعل الماء فلم يرجع إليه، فأرسل الحمامة فرجعت إليه فلم يجد لرجليها موضعاً فبسط يده للحمامة فأخذها فأدخلها، ثم مضت سبعة أيام، ثم أرسلها لتنظر له ما فعل الماء فلم ترجع فرجعت حين أمست وفي ورق زيتونة، فعلم نوح أن الماء قد قل على وجه الأرض.
ثم مكث سبعة أيام ثم أرسلها فلم ترجع إليه، فعلم نوح أن الأرض قد برزت، فلم كملت السير فيما بين أن أرسل الله الطوفان إلي أن أرسل نوح الحمامة ودخل يوم واحد من الشهر الأول من سنة اثنتين؛ برز وجه الأرض، وظهر البر؛ وكشف نوح غطاء الفلك.
وهذا الذي ذكره ابن إسحاق هو بعينه مضمون سياق التوراة التي بأيدي أهل الكتاب.
وقال ابن إسحاق: وفي الشهر الثاني من سنة اثنتين في ست وعشرين ليلة منه:
{قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك، وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم} (سورة هود:48)
وفيما ذكر أهل الكتاب أن الله كلم نوحاً قائلاً له: اخرج من الفلك أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك، وجميع الدواب التي معك ولينموا وليكثروا في الأرض.
فخرجوا، وابتنى نوح مذبحاً لله عز وجل، وأخذ من جميع الدواب الحلال، والطير الحلال فذبحها قرباناً إلي الله عز وجل، وعهد الله إليه ألا يعيد الطوفان على أهل الأرض، وجعل تذكاراً لميثاقه إليه القوس الذي في الغمام، وهو قوس قزح الذي روى عن ابن عباس أنه أمان من الغرق. قال بعضهم: فيه إشارة إلي أنه قوس بلا وتر، أي: أن هذا الغمام لا يوجد منه طوفان كأول مرة.
وقد أنكرت طائفة من جهلة الفرس وأهل الهند وقوع الطوفان، واعترف به آخرون منهم، وقالوا: إنما كان بأرض بابل ولم يصل إلينا. قالوا: ولم نزل نتوارث الملك كابراً عن كابر من لدن "كنوفرت" يعنون ـ آدم ـ إلي زماننا هذا.
وهذا قاله من قاله من زنادقة المجوس عباد النيران وأتباع الشيطان. وهذا سفسطة، وكفر فظيع، وجهل بليغ، ومكابرة للمحسوسات، وتكذيب لرب الأرض والسموات.
وقد اجمع أهل الأديان الناقلون عن رسل الرحمن، مع ما تواتر عند الناس في سائر الأزمان، على وقوع الطوفان، وأنه عم جميع البلاد، ولم يبق الله أحداً من كفرة العباد؛ استجابة لدعوة نبيه المؤيد المعصوم، وتنفيذاً لما سبق في القدر المحتوم.